الشيخ حسين بن محمود وتعقيباتـه على مداخلات الإخوه على مقاله( إجلس معنا ساعه ) جديد
بسم الله الرحمن الرحيم
تعقيب على مداخلات الإخوة على مقالة "اجلس معي ساعة"
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. أما بعد .
فقد جاءت تعليقات كثيرة ورسائل خاصة وعامة تجاوزت المائة رسالة من إخوة أحبة تكلموا على فقرات من المقالة الأخيرة "اجلس معي ساعة" ، وكانت في مجملها تحمل هم الأمة والغيرة على الدين وإرادة الحق ، وفي بعضها تمادٍ من بعض الإخوة وتحامل ، وهذا أمر طبيعي في موضوع حسّاس يحتاج إلى إعمال فكر واجتهاد ..
قبل التعليق ، أود أن أذكر أمراً سائني كثيراً ، وهو ما نُقل من بعض الإخوة – هدانا الله وإياهم – الذين تكلموا في الشيخ الكريم حامد العلي ، وكان مما قيل أنهم قدموني عليه وذكروا بيتاً من الشعر لا يليق ، وهو بيت السيف والعصى ، وحتى يُقطع هذا الطريق ، أقول : الشيخ حامد العلي حفظه الله أعلم مني وأفضل وأصدق ، ولا أجيز لأحد أن يساويني به فضلاً عن أن يقدمني عليه ، ورحم الله امرء عرف قدر نفسه ..
أما بقية الردود ، فهي تدور في مجملها حول هذه المحاور : كون القادة في حماس مخطئين وقد ارتكبوا بعض نواقض الإسلام وضيقوا على المجاهدين من غير فصيلهم وأنهم لا يسمعون نصحاً ولا يقبلونه من غيرهم ، هذا مجمل ما يُستنتج من كلام الأحبة ..
بعد مراجعة كثير من الردود والتعليقات بعناية ، تبين أن كثير من الإخوة لم يقرؤوا المقالة كاملة ، ومن قرأها ربما لم يفهم بعض ما فيها ، وقليلٌ من قرأ وفهم ثم كتب تعليقات أو تعقيبات تدل على ذلك !! ولعل هذا بسبب طول المقالة ، وأن بعض الإخوة ربما لا يملك الوقت الكافي لقراءة كل هذا الكلام ، ولكن يجب أن يعلم الإخوة بأن هذه رؤوس أقلام ليس إلا ، فالموضوع يحتاج إلى كتب ودراسات تُبيّن كل نقطة خلاف بين الإخوة ، وقد حاولت جهدي تلخيص بعض النقاط المهمة ، ولكنه جهدٌ قاصر ، ولعل هناك من الكلمات المبهمة والغير واضحة في المقالة أحدثت بعض الإشكالات عند بعض الشباب ، وهذا تقصير من جانبي اسأل الله أن يغفر لنا جميعا ..
أما من علّق على بعض النقاط وأراد بيانها حتى نفهمها ، فأقول : نحن متفقون على الأصول ، وأن هناك أحكاماً شرعية لا بد من الإتيان بها حتى يكون الإنسان مؤمناً أو مسلما ، ومنها على سبيل المثال : الحكم بما أنزل الله ، وموالاة المسلمين ، والبراءة من الكفار والمشركين والمرتدين ، والإيمان بالعقيدة الحقة التي كان عليها سلف الأمة من الصحابة ، وتحكيم شرع الله ، فهذه الأمور لا خلاف فيها بيننا ، ونحن لا نناقش هذه الأمور من ناحية ثبوتها أو أهميتها ، فهذه مسلمات عندنا ، ونحن متفقون عليها ، وقد كتبت مقالات لا أحصيها في بيان هذه الأمور وأهميتها ووجوب إعمالها في واقع الأمة ، وإنما الخلاف هنا في قبول عذر بعض من أخلّ بهذه الأسس والقواعد الشرعية ولم يطبقها في واقعه !!
هذا هو مدار البحث والمناقشة ..
لنرجع إلى الوراء قليلا ..
من المعروف أن هناك مذاهب إسلامية كثيرة ، ومدارس عدة مختلفة المشارب والأفكار والإجتهادات ، وهذه المدارس لها قواعد ولها أصول ولها علماء مجتهدون ، وكثير من هؤلاء مخلصون للدين يعملون من أجله وينصرونه بكل ما يستطيعون ، ومن هؤلاء علماء كبار أجلاء عرفهم القاصي والداني ، كابن حزم والغزالي وابن حجر والنووي وإمام الحرمين الجويني والأشعري وغيرهم كثير ، ومنهم قادة كبار كالمأمون والمعتصم اللذان امتحنا الناس بالقول بخلق القرآن ، وكذلك صلاح الدين الأيوبي ونور الدين محمود وسلاطين المماليك وآل عثمان والسلاجقة وغيرهم كثير ، فهؤلاء كان جلهم أشاعرة وصوفية ، ولكنهم يعَدّون من جملة علماء المسلمين وقادتهم ، وهم جزء من التاريخ الإسلامي ..
فالإختلاف في الأمة قديم ، والإنصاف كذلك قديم ، فالإمام أحمد رحمه الله كان يقول بكفر من يقول بخلق القرآن ، ومع ذلك لم يكفّر الأعيان كالمأمون وغيره ، وكان يقول بأنهم متأولون ، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية مع بعض خصومه فإنه لم يكفّرهم وقال بأنهم جهّال ، وهذا كثير عند العلماء ، وقد نقل العلماء كلام أصحاب البدع وأخذوا به في غير بدعهم ، فالبخاري ومسلم نقلا أحاديث لأناس كان فيهم تشيّع وغيره ، وكذلك تجد في بقية كتب الحديث ، والواقدي من أعلام المؤرخين أخذ عنه ابن كثير وغيره مع كونه رافضي قح ..
لو أردنا أن نُحصي العلماء الذين يخالفوننا في بعض مسائل العقيدة التي نعتقد بكفر قائلها لربما كتبنا مجلدات كبيرة كثيرة ، ولربما صُعق البعض لرؤيته أسماء علماء لا يخطرون على باله ، وهذا يعرفه العارفين بمذاهب العلماء ، ويعرفه من يقرأ كتب الرجال والطبقات والأعلام ، ولكن مع ذلك تجدنا نأخذ بآراء هؤلاء وربما نقدمها على آراء غيرهم من أصحاب العقيدة الصحيحة في جوانب غير ما يخالفوننا من الأمور العقدية : كالفقه والحديث والأصول والقواعد الفقهية والتفسير واللغة وغيرها ..
نرجع إلى موضوعنا ..
قلنا بأن هناك مدارس كثيرة ، ولعل من أكبر المدارس في زماننا هذا :
1- المدرسة الأزهرية الأشعرية الصوفية الشافعية .
2- ومدرسة ما يسمى "بالسلفية" (ومركزها جزيرة العرب ، نجد بالتحديد) ، وهي حنبلية.
3- ومدرسة الهند الصوفية الحنفية .
4- ومدرسة المغرب الصوفية المالكية .
هذه هي المدارس الكبرى في وقتنا ، وهناك مدارس أخرى ولكنها أصغر من هذه وليس لها ثقلها ، ونحن هنا نتكلم على المدارس التي تدخل في مجملها تحت دائرة أهل السنة بطريق أو بآخر ، ولا نريد إقحام الرافضة والقاديانية وأمثالهم هنا لأنهم ليسوا موضوع بحثنا ..
لقد عانا المجاهدون كثيرا في أفغانستان بسبب المدرسة الصوفية الحنفية هناك ، وتصدى للمجاهدين العرب بعض علماء أفغانستان من غلاة المتصوفة لخوفهم على مدرستهم التي هي امتداد للمدرسة الهندية الصوفية الحنفية ، وكان الخوف الأكبر من المدارس الدينية في باكستان التي كان يمولها بعض التجار في جزيرة العرب ، ولهذا تجد مؤسسة راند اليوم تقول بضرورة ضرب المذهب الحنفي بالحنبلي (الوهابي) ، وستجد من يساندها من غلاة كلا المدرستين بوعي أو بدون وعي ..
عنما نرى خلافاً بين جماعتين أو حزبين ينبغي لنا الرجوع إلى أصل الخلاف وجذوره ، عندها تكون إمكانية الجمع بينهما أكبر ، وطريقة النصح أسهل ، وهذا ما يغيب عن كثير من الإخوة ..
الجامع الأزهر قديم ، ومذهبه قديم قِدَم تحريره على يد صلاح الدين من الرافضة العبيديين قبل قرابة (850) سنة ، وصلاح الدين أشعري صوفي (ليس من غلاتهم) ، وهذا طابع ظل بالأزهر إلى اليوم ، وللأزهر دور كبير لا يُنكر في نصرة الأمة والحفاظ على العلوم الشرعية ، فكثير من علماء المسلمين الكبار درسوا في الأزهر ، بل كثير من أئمة الدعوة النجدية نفسها درسوا في الأزهر ، فعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب صاحب كتاب "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" درس في مصر ، وكان من مشايخه الجبرتي الأزهري المؤرخ ، وكثير من علماء الأزهر درّسوا في جامعات الجزيرة واستفاد منهم العلماء ، وهذا معروف مشهور ، فنَجْد لم يكن فيها جامعات علمية حتى وقت قريب ، وكثير من علمائها رحل في طلب العلم إلى الحجاز ومصر والهند وباكستان وحتى اليمن ، ثم لما رجع هؤلاء نشروا العلم في نجد وأصبحت بعدها حاضرة علمية ، وهي من أنشط الحواضر العلمية في هذا الوقت ..
حركة الإخوان المسلمين نشأت في البيئة المصرية ، وهذه البيئة أزهرية المذهب (إن صح التعبير) ، فهي أشعرية صوفية (ليست غالية) ، والإمام البنا كان رجلاً صادقاً عاملاً للدين – نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله – وكثير من علماء الإخوان وكثير من أفرادهم من الصادقين العاملين المضحين بأرواحهم وأموالهم وأهليهم في سبيل الدين ، وهذا لا يُنكره إلا مكابر ، وقد كان لهم جهاد عظيم ضد اليهود وضد الإنجليز وغيرهم ، ولهم تراث علمي غني تراكم في فترة زمنية قصيرة ، وهو امتداد لتراث الأزهر ، وحماس حركة "إخوانية" التنظيم أسسها الشيخ المجاهد "أحمد ياسين" رحمه الله وتقبله في الشهداء مع إخوان له ، والشيخ من الإخوان ، وكان رئيساً للهيئة الإدارية للإخوان في غزة ، فحركة حماس : فلسطينية المنشأ ، إخوانية التنظيم ، أزهرية المذهب ، وهذا في الغالب ..
هذا التعريف ضروري لفهم المواقف والإتجاهات والإجتهادات التي نراها اليوم ، فأنت إذا تكلمت عن اجتهاد "لحركة حماس" فإنك تتكلم عن إجتهاد إخواني بجذور أزهرية في الجملة ، وللأزهر اجتهادات معروفة وتوجهات في بعض الأمور العقدية والفقهية – خاصة فقه السياسة الشرعية – تختلف عن اجتهادت المدرسة النجدية ، وهذه الإجتهادات مبنية على أصول وقواعد شرعية ، وليس كل القواعد والأصول مُجمع عليها بين العلماء كما يعتقد البعض ، ولإختلاف هذه القواعد والأصول تجد البون الشاسع بين الإجتهادات ، وخاصة فيما يتعلق بالسياسة الشرعية التي كثير من نصوصها مُجملة ومحل اجتهاد ، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعض أسباب اختلاف الفقهاء في رسالته القيمة "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" ولكنه لم يحصيها كلها ، وذكر الشيخ علي الخفيف رحمه الله في كتابه "أسباب اختلاف الفقهاء" أسباب كثيرة للإختلاف وذكر أمثلة كثيرة عليها ، فمن أراد التوسع في المسألة فعليه بهذين الكتابين ..
هناك أصول وثوابت يتفق عليها الجميع ، منها : وجوب تحكيم شرع الله ، ووجوب الولاء للمسلمين ، ووجوب البراء من الكفار ، ووجوب الجهاد في سبيل الله ، فالخلاف ليس في أصل هذه الأحكام ووجوب تطبيقها ، وإنما الخلاف في القدرة عليها ، فمثلاً : كلنا يعلم بأن جهاد الطلب واجب على الأمة ، وهو فرض كفاية على رأي الجمهور ، والأمة إذا تركت جهاد الطلب فهي آثمة ، ولكن العلماء قالوا بأن هذا الفرض يؤخَّر مع عدم القدرة عليه ، وهنا يأتي الخلاف : هل الأمة اليوم قادرة على جهاد الطلب الذي هو غزو الكفار في عقر دارهم وفتح بلادهم وحكمها بالإسلام ، فهذا قد يكون محل جدل وخلاف ، وليس أصل كون الجهاد فرض موضع خلاف ..
والحكم بما أنزل الله فرض وواجب على الأمة ، وتركه من أعظم الجرم وأشنعه ، والحاكم بغير ما أنزل الله الواضع لدساتير وقوانين مخالفة لشرع الله كافر مرتد عن الدين ، وهذا لا نجادل فيه ولا نناقش ولا ينبغي لنا ، فالنصوص صريحة وواضحة لا لبس فيها ولا غبش ، وحاشاها ، ولكن تبقى بعض القواعد الشرعية الأخرى المعتبرة التي قد تُبقي بعض من لا يحكم بما أنزل الله في دائرة الإسلام ، فقد قال الله تعالى {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا...} ، وهذه قاعدة في جميع العبادات ، والنبي صلى الله عليه وسلم أكّد هذه القاعدة بقوله "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (البخاري) ، فمن لم يستطع الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج أو الجهاد أو الحكم بما أنزل الله بعد بذل جميع الوسع ، ولسبب شرعي ، عندها يكون معذوراً ، ولا نكفّره ، والإجتهاد هنا يكون في : النظر في ما بذله من وسعه ، وفي كون السبب الذي ترك هذه الأعمال من أجله سبب شرعي ، ومتى ما قدِر على العمل : سقط عذره ..
ومن القواعد الشرعية أيضا قوله تعالى **.. رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ...} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "عُفي لأمتى عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (النسائي وصححه الألباني) ، فمن أخطأ (مجتهداً أو متأوّلاً) أو نسي أو استُكره فهو معفو عنه ، ويكون الإجتهاد في مسألة "الخطأ" هنا فيما إذا كان مثل هذا الشخص يُخطئ في مثل هذا الفعل أو القول ، ومثال ذلك : إذا وقع رجل على زوجته في نهار رمضان فهل نحكم عليه بتحرير رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكيناً أم ننظر في حاله أولاً !! إذا كان هذا الرجل حديث عهد بإسلام أو كان في بادية لا يعرف الحكم أو أفتى له عالم قريته بحله !! فما حكم فعل هذا الرجل !!
ومن أُستُكره على الكفر كذلك لا يُحكم بكفره ، كما حصل لعمّار بن ياسر رضي الله عنه حينما قال كلمة الكفر تحت التعذيب فأنزل الله قوله تعالى {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ...} والنبي صلى الله عليه وسلم قال له "إن عادوا فعُد" يعني إن عادوا لتعذيبك فقل ما قلته ، ونحن نتكلّم هنا عن الكفر الصريح ، وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية السابقة "... اتفق العلماء على أن المُكرَه على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاءً لمهجته ، ويجوز له أن يأبى..." وذكر أن عماراً رضي الله عنه سبّ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهة الكفار بخير" .. ثم قال ابن كثير "والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله" ..
الإجتهاد في مسألة الإكراه يكون : في طبيعة الإكراه وكونه مُجبر صاحبه ، وهل له طريق خلاص منه ، وهل الأولى أن يصبر أم يأتي بكلمة -أو بفعل - الكفر ، وهذا موضع خلاف بين العلماء قديماً وحديثا ، فكثير من العلماء في عهد المأمون مثلاً أجابوه لدعوة خلق القرآن الكفرية فراراً من التعذيب ، وصبر بعضهم وأخذ بالعزيمة ، ولعل الضابط في هذا أن من يتحمّل العذاب يصبر ، ومن لا يتحمّل يأخذ بالرخصة ، فسيدنا بلال رضي الله عنه أخذ بالعزيمة وسيدنا عمار أخذ بالرخصة ، فذاك مأجور وهذا معذور رضي الله عنهما ، وذكر العلماء ضابطاً آخر في كون المُبتلى متبوع أو غير متبوع ..
فالخلاصة رحمكم الله : أننا لا نناقش أصل المسألة وكونها واجبة ، وإنما النقاش في بعض حيثيات التطبيق وهل يكون الإنسان معذوراً إذا اجتهد في بعض الجوانب على وفق القواعد التي ذكرناها ، وهنا تختلف المدرستين : الأزهرية والنجدية ، فالنجدية تأخذ بالعزيمة في الغالب ، والأزهرية تأخذ بالرخصة في الغالب ، ودورنا نحن أن نبين للناس ما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم ونحملهم على العزائم ونحثهم عليها ، ولكن في نفس الوقت نلتمس العذر لمن أخذ بالرخص الشرعية ، خاصة من كان له سابقة ودلّت القرائن على أنه يريد اتباع الشرع ..
أما حكام البلاد العربية ، فلا وجه مقارنة بينهم وبين من يعمل ويجاهد الكفار : فهؤلاء الحكام موالون لليهود والنصارى ، ويعملون معهم بأجهزتهم وأموال المسلمين التي اغتصبوها منهم ، ويحاولون تمكين الكفار من بلاد المسلمين ، ويحاربون شرع الله ويحرفون دينه ، وينشرون الفاحشة في الذين آمنوا ، ويحاربون المجاهدين ويضيقون عليهم في فلسطين والعراق وأفغانستان ويدلّون على عوراتهم ، ويسلمّونهم لليهود والنصارى ، وهؤلاء لا يبالون بدين ولا حق للمسلمين ، وقد أعلنوا دخولهم تحت راية الحملة الصليبية على المسلمين ، ولا يفعلون كل هذا من باب الإجتهاد الشرعي أو الأخذ بالرّخص التي ذكرنا ، فهذا لا يقوله عاقل ، وإنما يفعلون ذلك للبقاء في مناصبهم والتمتع بأموال المسلمين المغتصبة ، فهؤلاء لا تهمهم فلسطين ولا أقصى ولا مسرى ولا حرَم ولا دم حرام ولا شيء من هذا ، إنما همّهم الوحيد العيش في هذه الدنيا والتمتع بها ، وقد عرف المسلمون هذا ، بل وحتى الكفار يعرفون ذلك ويذكرونه في كتبهم وإعلامهم ، فشتان بينهم وبين من ينام تحت القصف وأزيز الرصاص وهو مطارد من يهود ومرتدين لا لشيء إلا لأنه يقول "ربي الله" ، ولو شاء هؤلاء لدخلوا "جنة عباس" في الظفة الغربية (التي هي في الحقيقة "نار") وتركوا العيشة في غزة المحاصرة ، ولكنهم اختاروا الجهاد والتضحية بأنفسهم وأهليهم في سبيل أمر يعتقدونه ، ولهم اجتهادات خاطئة ولكن جل عملهم واجتهاداتهم صحيحة ، وهم على ثغر من أشد ثغور المسلمين ، وأبنائهم وآبائهم وإخوانهم يموتون كل يوم في سبيل دينهم ، وأخواتهم في سجون اليهود يتعرضن للإهانة والتعذيب ، فأين عقل من يحاول الجمع بين النقيضين !!
لقد قال عمر رضي الله عنه "لستُ بالخب ، ولا الخب يخدعني" ، والخب "الخدّاع" ، فنحن لا يخدعنا هؤلاء الحكام ونعرف عمالتهم ونعرف حقيقة ما يقوله بعض موظفيهم "علماء التسول" ، والعبرة عندنا ليس بالكلام المجرّد النظري ، وإنما نرى الأفعال والقرائن والدلائل نحكّم عقولنا فيها وفق الضوابط الشرعية ، وكل عاقل اليوم عرف وعلم حقيقة هؤلاء الحكام ، فليس الأمر ترف فكري أو مقارنة نظرية ، الأمر واقع عملي لا يغيب عن من له أدنى نظر ، أما من طمس الله على قلبه وأعمى بصره بحيث لا يفرّق بين مسلم وشيطان ، فهذا له كلام غير هذا ، وإنما الكلام هنا للذي يريد الحق فأشكلت عليه بعض الأمور ، فالمقارنة بين الحكام وبين هؤلاء كالمقارنة بين "حاطب بن أبي بلتعة" الذي اجتهد فأرسل رسالة إلى مكة ليُنذر قريشا ، وبين عبد الله بن أبيّ بن سلول ، فالأول صحابي جليل له سابقة وجهاد عذَره النبي صلى الله عليه وسلم لتأويله ولسابقته ، والثاني منافق عدو للإسلام محارب له وهو في الدرك الأسفل من النار وإن صلى وصام وتظاهر بالإسلام ..
العامل معروف ، والخائن معروف ، والحقيقة واضحة ، والمسألة ليست بهذه الضبابية ، فقد تمايزت الصفوف وعلم الناس الحق ، وعرفوا أهله ، فمن الظلم أن نعقد مثل هذه المقارنات وأن نفترض مثل هذه الفرضيات .. من كانت له سابقة جهاد وتضحية ليس كمن كان تاريخه كله كفر وخيانات وغدر وظلم للأمة ، فهذه مقارنة مع فارق كبير عظيم {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم : 36) ، فالأول نلتمس له الأعذار ، والثاني لا نقيم له وزنا ولا نقبل له عذر حتى نرى ونعلم علم يقين بتغير الحال ، وذلك في الحالتين ..
وأنبه إلى أمر غاية في الأهمية : وهو طريقتنا في التعامل مع المخالف !!
كما أننا نطالب من يخالفنا بالرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة فينبغي لنا نحن أن نتقيد بهذا الضابط ونعرف القيود التي في الكتاب والسنة في شأن طريقة مناقشة هذا الخلاف ، فقد أمرنا الله تعالى بدعوة الكفار بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، هذا مع الكفار ، فكيف بالمسلمين !! وأخبرنا ربنا جل في علاه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان فظا غليظ القلب لانفض الصحابة من حوله .. وأمر ربُّنا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين ، وأمرنا أن نكون رحماء بيننا .. وليس مخاطبة الكافر كمخاطبة المسلم ، فالناس مقامات ، وانظر إلى قول الله تعالى في الوالدين {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ...} فبقدر حق الإنسان عليك تكون معاملتك معه ، وحق المسلم عظيم وكبير على أخيه ، فيجب أن لا نكون في هذا الباب ممن قال الله فيهم {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ، فالعقل العقل ..
وكما أن الجدال والنقاش يكون بالتي هي أحسن ، فلا بد أيظا أن يكون بعلم ، فقد قال تعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ...} ، وهذه البصيرة تقتضي البحث والنظر في الأدلة وعرضها عرضاً يليق بمكانتها كي تقبلها النفوس ، فإذا فعلنا هذا كانت الفائدة لنا قبل غيرنا ، وذلك أن البحث يزيد من علم الإنسان ويقوي فهمه ومقدرته على ربط النصوص بعضها ببعض ويُعرّفه بمكامن الخطأ والزلل ، وكذلك الأجر الذي يناله صاحبه من نشر العلم بين الناس ، ويبقى الأجر ما بقي أثر العلم ، فأي خير يجنيه الإنسان من ذلك كله "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها" (متفق عليه) .. لكن للأسف ، ترى الناس يعزفون عن هذا الخير العظيم بالترامي والتراشق والإتهامات التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع ، وترى العناد والتعصب والهوى والإنتصار للذات ، فتغيب الحقيقة ويغيب الأجر ويبقى الإثم ، والعياذ بالله ..
كثير من الإخوة أخذ بمبدأ بوش "إما أن تكون معنا أو ضدنا" !! ألا يصلح أن نقول "إما أن تكون معنا أو مع غيرنا" ، المهم أن تعمل من أجل الدين !! وهذا الكلام للفريقين : فحماس تُقاتل اليهود ، ولو توقفوا عن القتال أو عن مجرد تهديد اليهود فإن ضرره سيكون على الأمة كلها لأن اليهود سيوجهون جهدهم لها ، ومجاهدوا قاعدة الجهاد يقاتلون الأمريكان والأوروبيين ، ولو توقفوا لكان ضرره على الأمة كلها عامة وعلى فلسطين خاصة لأن هؤلاء سيتفرغون لها .. فمصلحة الفريقين تقتضي العمل معاً ، أو على الأقل : ترك الآخر يعمل ، والتفرّغ للعدو الأكبر .. أما أن نشتغل ببعضنا البعض فهذه إضاعة جهود واستفراغها في غير موضعها ..
لا أدعو إلى ترك الكلام عن مسألة الحكم بما أنزل الله ، فهذه مسألة من أعظم مسائل الشرع وأخطرها ، ولكني أدعو إلى حسن صياغة الكلام عن الموضوع والإخلاص فيما نقول ، وأن يكون كلامنا منضبطاً بضوابط الشرع ، وأن لا نتهم أحداً بالكفر بهذه السهولة ، وأن نعرف من أين أتوا وكيف وصلوا إلى هذا الإجتهاد ، وهل لهم عذر شرعي ، وإن لم يكن لهم عذر فكيف نبيّن ذلك لهم بأفضل طريقة ، وكيف نردّهم إلى الحق ، وكيف نبقيهم إخوة لنا ، وكيف نضمن عدم نفورهم منا ، وكيف نجتنب الإختلاف والتناحر والتباغض ، وكيف نكون كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وكيف نوجّه قوّتهم ونكايتهم في وجه عدونا لا في وجهنا !!
لا يحصل كل هذا إلا بالعلم والإخلاص والتجرّد ، وترك حظ النفس والهوى والتعصّب للرأي ، والأصل في كل هذا إرادة مصلحة الأمة ككل ، وليس مصلحة حزب أو جماعة أو شخص ، ومن فعل هذا فقد وقع في الظلم ، وكثير ما يكيل هؤلاء بمكيالين : فإذا اخطأ أصحابهم أتوا بكل عذر ، وإذا أخطأ المخالف رفضوا كل عذر !!
علينا أن نروّض أنفسنا على التجرّد والبعد عن الإنتصار الشخصي ، وهذا والله شديد على النفس ، ولكن لا بد منه ، ومتى ما تركنا حظ النفس ، هان علينا التواضع وخفض الجناح حتى للمخالف من إخواننا ..
لا أدعي أني أتيت على حيثيات الموضوع أو لممته ، ولا أدعي أن هذا الكلام فصل لا يسع أحد الخروج عنه ، ولكن أقول : هذا اجتهاد مني حسب فهمي للنصوص والقواعد ، وقد أكون مخطئاً في تقديري أو رأيي ، ولكن هذا مبلغ علمي وفهمي ، فمن رأى فيه حق فليأخذ به ، ومن رأى غيره فليعذر أخاه وليدعوا له بالهداية ، وأستغفر الله وأتوب إليه من كل زلل ، وأسأل الله أن يجمع الشّمل ويوحّد الصفوف ويرصّها في مواجهة عدوها ..
لقد بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم أحدهم بالجنة ، لا بكبير عمل ، ولكن بمحبته وصفاء قلبه تجاه إخوانه المسلمين .. فنسأل الله أن نكون كذلك ..
والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
أخوكم
حسين بن محمود
15 شعبان 1429هـ

النظام العربي المتعفّن المبدّل للشريعة ، الفاقد للشرعيـّة ، والعائق الأكبر لنهضة الأمـّة ، والقائم على حرب الإسلام ، وإعانته لأعداء الأمة ، مسـتمر بإستبداده ، وظلمه ، ومحاصرته لدعم المجاهدين ، ومنعه إغاثة المسلمين تحت الإحتلال ، وتضييقه على العلماء والدعاة ، وعبثه بقيم الأمـّة ، وهدمه لثوابتها ، وتحت ستار مفهوم الوطنية الزائفة المناقض للشريعة يزيد الأمـّة تمزيقـاً ، وعلماء السوء يواصلون إضفاء الشرعية عليه ، بوسائل التلبيس ، والتدليس ، والتعمية ، والإضلال (الشيخ حامدالعلى )
|