أبْعَدْتَ النّجْعَة يَا أبَا مُعَاذ (
= الشّيخ سلمان العودة )
لفضيلة الشّيخ
الدُّكتور عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن
والاه وبعد :
الشيخ سلمان العودة حبيب
إلينا، لكن الحق أحبّ إلينا منه، والشيخ سلمان له سابقته وكتبه وأشرطته التي
انتفع بها الأكثرون ومنهم كاتب هذه السطور، ولا يزال أقوام كثيرون الآن
يستفيدون من برامجه وأطروحاته.
وللشيخ سلمان مراجعاته
وتراجعاته في العصر الجديد، والمخالفون للشيخ سلمان بين إفراط وتفريط، فمنهم
من قد أسقطه ورفضه في عهده القديم والجديد، وآخرون من مشايخ ودعاة فضلاء ما
برحوا يعتذرون لأبي معاذ بدعوى أن له قدماً في الدعوة والعلم، وأن مراجعاته
وتراجعاته لا تعدّ خللاً منهجياً ولا اضطراباً عقدياً، لكن مسلسل التراجعات
وصل إلى اضطراب في تقرير عقيدة البراء ، واختزالها بتأويلات تردّها نصوص
الوحي وقواطع الشرع ، كما في مقالته :
- ( بين الولاء الإسلامي والفطري ) والمنشور في موقع
الإسلام اليوم بتاريخ20/2/1428هـ.
وخلاصة المقالة
المذكورة مايلي:- هام الشيخُ سلمان في الحبّ الفطري ، أو ما أسماه ( الولاء
الفطري ) وبالغ في إظهاره ( وتسويقه ) وتبريره، وجعل عداوةَ الكافرين – أو ما
أسماه : موالاة غير المؤمنين – في المحاربين فقط ، فتفوّه قائلاً :
ـ ( كل الآيات التي جاءت تحرم موالاة غير المؤمنين
فالمقصود بها المحاربون..)، ثم ادّعى أن عداوة إبراهيم -عليه السلام- وبغضه
لقومه من أجل أنهم عادوه و أبغضوه..
وأسوق التعقيبات الآتية :
ـ شعار ( الولاء الفطري ) الذي رفعه الشيخ سلمان ، وذكر أنه لا
تناقض مع الولاء الإسلامي، بل إنه جعل الولاء الإسلامي متمماً للولاء الفطري
كان عليه أن يجعل الولاء الشرعي هو الأصل الذي يحكم ويضبط الحب الفطري فلو
حمله حبّ الوطن أوالعشيرة مثلاً على ترك واجب أو فعل محرم لكان هذا الحب
الفطري مذموماً كما قال تعالى : ﴿ قُلْ إِن كَانَ
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ
وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [سورة التوبة الآية
24 ].
فعلام
المبالغة بـ ( الولاء الفطري ) وتهويله وأنه لا يناقض الولاء الإسلامي مطلقاً
؟!
- مع أن
الشيخ سلمان من علماء الشريعة، ونشأ وعاش في بريدة القصيم ، وفي ومحاضن
الصحوة الإسلامية، واشتغل بالحديث، واستبان له مكر الكافرين وكيد
المنافقين..مع ذلك كله فمقالته ( الحانية ) قد استحوذ عليها:ـ ( الفطرية
العفوية مع الآخرين ) و( السلم ) و ( العلاقات الإنسانية ) و ( الحبّ
المتبادل)..
وفي المقابل فإن أستاذاً أديباً في إسكندرية مصر
يكتب محاضرة بليغة عن الإسلام والعالمية ومنذ عدة عقود : فيقول د. محمد محمد حسين -رحمه الله- : (
وقد جربنا الكلام عن الإنسانية والتسامح والسلام , وحقوق الإنسان في عصرنا,
فوجدناه كلاماً يصنعه الأقوياء في وزارات الدعاية والإعلام , ليروج عند
الضعفاء, فهو بضاعة معدة للتصدير الخارجي وليست معدة للاستهلاك الداخلي, لا
يستفيد منها دائماً إلا القوي ,لأنها تساعده على تمكينه من استغلال الضعيف
الذي يعيش تحت تخدير هذه الدعوات.. - إلى أن قال - الصراع عند المؤمنين خير
في جملته, إن بدا جانب الضرر فيه أظهر للنظرة المتعجلة, وهو العامل الأساسي
الذي يكمن وراء كل تقدم بشري وحضاري, فهو الذي يحمل الضعيف والمتخلف على أن
يخلع أثواب الخمول والكسل، ويتحمّل تكاليف الجهاد والكفاح ليكون الأفضل
والأعلى..) (( الإسلام والحضارة الغربية )) ( ص 192 , 194
).
فتأمل ما
كتبه الشيخ سلمان-سامحه الله- وبين ما حرره المفكر الأديب محمد محمد حسين
-رحمه الله- .
إن الإغراق في اختزال عداوة الغير, والانهماك في
تحريك مشاعر الحبّ والسلم فحسب قد يفضي إلى حيلة نفسية حذّر منها ابن القيم بقوله : ( إن النفس
الأمارة بالسوء تُري صاحبها صورة الصدق وجهاد من خرج عن دينه وأمره في قالب
الانتصاب لعداوة الخلق وأذاهم وحربهم , وأنه يعرض نفسه للبلاء ما لايطيق ,
وأنه يصير غرضاً لسهام الطاعنين وأمثال ذلك من الشبه ) (( الروح )) (
ص392).
وإن من
تحقيق العدل أن يقرر الحب وما يتفرع عنه من ولاء , وأن يقرر البغض وما يتفرع
عنه من براء , كلّ ذلك بتوازن وقسط , فلا يطغى أحدهما على الآخر , فإذا كان
الحبّ أصل كل فعل , فإن البغض أصل كل ترك , كما هو محرر مسطور في قاعدة
المحبة لابن تيمية .
- أطلق الشيخ سلمان أن قطع الصلات من سمات الضالين
, مع أن الآية الكريمة التي ساقها تنقض هذا الإطلاق , حيث قال تعالى : ﴿
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن
يُوصَلَ ﴾ [سورة البقرة الآية 27 ] , فالمراد الصلات التي أمر الله أن
توصل , وليس كل صلة , كما هو ظاهر الآية , ولذا رجح ابن جرير أن المراد به
صلة الأرحام , واختار بعضهم أن المراد به أعم من ذلك , فكل ما أمر الله بوصله
وفعله فقطعوا وتركوا .
- يخلط الشيخ سلمان بين حبّ الكافر , وبين معاملته
بالبرّ والقسط , مع ثبوت الفرق بينهما , كما حققه القرافي في الفروق
(3/15,14) , فلا يسوغ أن يقتصر على قوله تعالى : ﴿ لَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِم ْ
﴾ [سورة الممتحنة الآية 8 ], ويترك ما قبلها في أول السورة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ
كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ ﴾ [سورة الممتحنة الآية
1].
- النصوص
الشرعية والآثار الكثيرة في مسائل الولاء والبراء أكثر من أن تحصر، ومع أن
الشيخ سلمان قرر شيئاً من الحق والصواب في تلك المقالة, إلا أن الانتقائية
حاضرة في إيراد الأدلة أو الاستدلال عليها, ومن ذلك أنه ساق أثراً لابن
عباس-رضي الله عنهما- إذ يقول : ( لو قال لي فرعون بارك الله فيك لقلت : وفيك
).
ومن العجب
أن يقتصر على هذا الأثر دون سائر الآثار , ولاسيما وأن الشيخ سلمان لم يبين
معنى هذا الأثر المتشابه , فمَن المقصود بفرعون هاهنا ؟ وهل يتصور أن فرعون
موسى قد يدعو بهذا الدعاء ؟ وهل مقصود ابن عباس أن يدعو بالبركة والنماء
والزيادة لفرعون ؟!
وفي الأثر المشهور عن ابن عباس أنه قال : ( من أحبّ في الله, وأبغض في الله, ووالى في الله, وعادى في
الله, فإنما تُنال وَلاية الله بذلك, ولن يجد عبدٌ طعمَ الإيمان وإن كثر
صلاته وصومه حتى يكون كذلك, وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك
لا يجدي على أهله شيئاً ) أخرجه ابن المبارك في الزهد
.
ومن
الانتقائية في الاستدلال أنه جعل آية ﴿ لَا تَجِدُ
قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.. ﴾ الآية [سورة
المجادلة الآية 22 ] في حق المحاربين, وظاهر الآية يدل على عموم الكفار,
والعبرة بعموم اللفظ ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في شأن هذه
الآية : ( فهذا التأييد بروح منه لكل من لم يحب أعداء
الرسل وإن كانوا أقاربه, بل يحب من يؤمن بالرسل وإن كانوا أجانب, ويبغض من لم
يؤمن بالرسل وإن كانوا أقارب , وهذه ملة إبراهيم ) (( الجواب الصحيح
)) (1/256 ).
- ومن شناعات المقال ( كل الآيات التي جاءت تحرّم
موالاة غير المؤمنين فالمقصود بها المحاربون..) فهذه العبارة هي ( الباقرة ),
فلقد أوقع أبو معاذ نفسه في سقطة شنيعة, وجرأة فجة ومصادرة مرفوضة.. فمن الذي
سبقك يا أبا معاذ إلى هذا التعميم والقطع بهذا الرأي
؟!
رحم الله
زماناً قريباً كان العلماء ينتقدون بشدة من جعل موجب جهاد الكفار هو المحاربة
وليس الكفر, فينقضون ذلك الرأي محتجين بقوله تعالى: ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ
بِالْيَوْمِ الآخِرِ .. ﴾ الآية [ سورة التوبة الآية 29 ]
.
لكن أن يقال
إن عداوة الكفار للمحاربين فقط , فهذا منقوض بالأدلة الشرعية من القرآن
والسنة, وآثار السلف, وتحقيقات أهل العلم.
يقول العلامة عبد
الرحمن السعدي -رحمه الله- : ( أن الله عقد
الأخوة الإيمانية والموالاة والمحبة بين المؤمنين كلهم, ونهى عن موالاة
الكافرين كلهم من يهود ونصارى ومجوس ومشركين وملحدين ومارقين وغيرهم ممن ثبت
في الكتاب والسنة الحكم بكفرهم, وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين, وكل مؤمن
موحد تارك لجميع المكفرات الشرعية فإنه تجب محبته وموالاته ونصرته, وكل من
كان بخلاف ذلك فإنه يجب التقرّب إلى الله ببغضه ومعاداته وجهاده باللسان
واليد بحسب القدرة..) (( الفتاوى السعدية )) (ص
98).
ويلزم من
مقالة الشيخ سلمان أن الكافر -غير الحربي- لا يُعادى ولا يُبغض ولا يجاهد ولا
يُمتنع من التشبه به والسلام عليه.. إلى آخر اللوازم
الشنيعة.
يقول
شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وليعلم أن المؤمن تجب موالاته
وإن ظلمك واعتدى عليك والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك, فإن الله
سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله, فيكون الحبّ لأوليائه
والبغض لأعدائه ) (( مجموع الفتاوى )) ( 28/ 208
).
- ختم
الشيخ سلمان مقالته بتلك العثرة المكشوفة إذ ادّعى أن إبراهيم -عليه السلام-
إنما أبغض وعادى لأجل أنهم عادوه وأبغضوه, ومفهوم ذلك أن إبراهيم -عليه
السلام- لم يكن ليبغضهم أو يعاديهم لأجل كفرهم وشركهم, وهذا كلام متهافت يرده
قول إبراهيم لقومه: ﴿ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ ﴾ [سورة الممتحنة الآية 4 ], فالعداوة قائمة حتى يؤمنوا
بالله وحده وليس حتى يتركوا عداوته - كما جاء في المقالة – فليس مجرد مقايضة
كما ظنه الشيخ سلمان .
وأخيراً فأحسب أن للشيخ أبي معاذ من الدين والعقل
والعلم ما يقتضي أن يراجع مقالته السالفة , وأن ينظر في هذا التعقيب ممن هو
دونه .. فكل ابن آدم خطّاء , والحي لا تؤمن عليه الفتنة , فأسأل الله الكريم
أن يلهمنا رشدنا .
وما أجمل أن أورد هذه العبارةَ في نهاية هذه
المقالة -التي سطّرها ابن تيمية- رحمه الله- قائلاً : (
فلا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد كله لله -عز وجل- , فيكون
حبّه لله ولما يحبه الله , وبغضه لله ولما يبغضه الله, وكذلك موالاته
ومعاداته ) (( مجموع الفتاوى )) ( 10/ 601 )
أهـ