صوفيّة أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم
تقم لكم على أرضكم

الصّوفيّة في تاريخها مع المسلمين بنت نفسها على بعض الأركان المنحرفة من العقائد الزّائغة التي انتسبت للإسلام زوراً وبهتاناً، وأهمّ هذه الأركان المنحرفة الّتي استغلّتها الصّوفية عقيدة الإرجاء، وهي مناقضة لتوحيد الشّرع، وعقيدة الجبر وهي مناقضة لتوحيد القدر، وخلاصة عقيدة الإرجاء المنحرفة أنّها تقدِّم إسلاماً بلا تكاليف، وتجعل مناط التّكليف الإيمانيّ تصوّر القلب واعتقاده، وأمّا أعمال الجوارح فليست إلا مظهراً لا قيمة له في عالم الحقائق، فهي عقيدة تدفع صاحبها دوماً إلى الانتكاسة نحو الدّاخل (القلب) دون الاهتمام بحركة الجوارح، ولمّا كان لابد من أن تقدّم هذه العقيدة تفسيراً لحركة الحياة وما نراه من الارتباط السنني الظاهر فإنها لجأت إلى عقيدة الجبر، وهي تفسير حركة الحياة تفسيرا غيبيّاً خرافيّاً لا وجود له في الحقيقة، وتجعل وقوع الأقدار مربوطاً بالباطل الإرجائي، ولا قيمة للظاهر من أعمال الجوارح، وقد علم المسلم المبتدئ أن حركة القلوب ليست هي المؤثّر في حركة الحياة، بل المؤثّر هو حركة الجوارح، مع علمه الأكيد أن حركة الجوارح لا تقع إلا بحركة القلب (إرادات الباطن)، وحين نفسّر هذه الكلمات المثال نقول:
إذا أراد الإنسان - أيّ إنسان - أن يبني بيتاً، فإن البيت لا يُبنى إلاّ بحركة الجوارح، بكلّ ما يطلب هذا البيت من أركان وشروط وتحسينات، مع أن هذا الإنسان لا يمكن أن يبني البيت إلا إذا أراد ذلك، والإرادة هي حركة القلب ، لكن لا يصح أن يقول قائل: إن الّذي يبني البيت هي الإرادة، بل الصّحيح أن الإرادة هي التي تنشئ العمل، الذي هو حركة الجوارح وبالعمل يُبنى البيت، وكلّها من حركة الإنسان: من إرادة قلبية وعمل الجوارح، فالإنسان يريدها في قلبه، ويعملها بجوارحه، وليس هو مكلّف بإرادة القلب ليقوم غيره بعمل الجوارح.
ولنعد الآن إلى العبارة المصيبة: أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم.
هذا الشِّقّ من العبارة يبيّن لنا أن المكلّف بإقامة دولة الإسلام هو القلب (الانتكاس نحو الداخل)، مع أن الواجب أن نقيم دولة الإسلام بجوارحنا، أي عن طريق حركة الجوارح الّتي تؤثّر في حركة الحياة، أي أن نقيمها في الخارج، وكان لنا أن نحسن الظنّ بهذه العبارة البدعيّة الضّالّة، لو لم يأت الشِّقّ الثّاني جازماً لنا أن لا نحمل معناها إلا على هذا المعنى البدعيّ الضّال، فلو قال القائل: أقيموا الدولة في قلوبكم (بإرادتكم الجازمة) لتقيموها (بجوارحكم العاملة) في أرضكم، لقلنا له صدقت، ولما عَدَت أن تكون هذه الكلمة مفسّرة لحركة الحياة القدرية، ولن تكون بحال من الأحوال شعاراً لمنهج شرعه صاحبه لينصح به أتباعه بسلوكه واتِّباعه.
لكن الشق الثاني حدد لنا المراد بما تقدم من الفهم المنحرف، لأنّه قال: تقُم على أرضكم. ولو سألناه من سيقيمها لنا على الأرض؟ فلن يكون الجواب أبداً نحن، لأننا نحن مكلّفون فقط بأن نّقيمها في قلوبنا، بل الجواب المجزوم بقوله هو: الله. وهذا الجواب مع ضلاله الشّرعي ومخالفته لأمر الله، إلا أنه للأسف يستهوي بعض النّاس حين يظنّ أن في ذلك تعظيما لشأن الله تعالى، وما درى أنّه استخفاف بتوحيد الله سبحانه وتعالى، وهو جواب جبريّ يناقض توحيد القدر وأوصل إليها كما تقدّم: الضلال في توحيد الشّرع حين جعل حركة الجوارح ليست هي المطلوبة في الشّريعة. بل المكلّف بذلك هو القلب وهو قول مذهب أهل الإرجاء الضّال.. فالعبارة كما هي عند أصحابها: أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم (إرجاء بدعي) تقم لكم على أرضكم (جبر بدعيّ).
والآن أين هذا من دين الصّوفية؟.
شعار الصّوفية الذي يسعى الصّوفي الملتزم لتحقيقه، هو خروجه من إنسانيته، بتحرره من الإرادة، ومن أهم الشّعارات لديهم: أريد أن لا أريد.. وعامّة مجاهداتهم الباطلة تسعى إلى هذا المقام، وهو تحرره من الطّباع الإنسيّة، وهي الّتي يحلو لهم، ولبعض من تأثّر بهم أن يسمّيها بالبهيمية: ومن أمثلتها: حبّ النّساء، شهوة التّملّك والاقتناء، حاجة المأكل والمشرب والملبس، فطرة الاجتماع والمدنيّة والعمران، وهي أمور بشرية فطرية لا يمكن للإنسان أن ينخلع منها، ولا أن تذهب عنه، لكن سعي الصوفيّ الدائم إلى التّحرر منها أوصله إلى الجنون، وهو الّذي لاحظه الإمام الشّافعي قديماً فيهم حين قال: لم يتصوّف رجل عاقل قط واتت عليه صلاة العصر إلاّ وهو مجنون، فالصّوفي يسعى إلى تحرره من الإرادة البشرية فيه، ولما دخلت الصّوفية إلى الإسلام حاولت أن تجد لها الدّليل الإسلامي لبدعتها هذه، لتستخدمه في نشر أفكارها وشعارها، فكان مذهب الجبر هو خير معين على ذلك، وخاصة حين صار الجبريّة، وهم الأشاعرة، أئمّة المسلمين في عصور التّخلّف والانحطاط، والأشاعرة يقولون بمذهب الكسب، وهو يعني احترام وجود إرادة قلبية للإنسان لا تأثير لها ولا قيمة لوجودها، أي إرادة غير مؤثّرة.

التالي
الفهرس
السابق

الصفحة الرئيسية
1